بكرة خيطان (قصة قصيرة)
بكرة خيطان (قصة قصيرة)
وصلْتَ، هل أقولُ: بعد فواتِ العمر، أم ما زال في العمر بقية تفرحُ بقدومك؟ المهمّ أنّكَ قد وصلْتَ، عُدْتَ إلى أمكَ بعد أكثر من عشرين عامًا، قضيتَها في الغربة، ماذا يا ولدي؟ ماذا أقولُ لكَ؟ هل كنتَ تشعر بما كانتْ تعاني منه أمُّك؟ على كل حال كانتْ تدعو لكَ بالتوفيق مع كلِّ صلاة، بل مع كلِّ رفة جفن.
أسوأ ما كنتُ أتوقعه أنكَ عُدْتَ وأنتَ ابن ثلاث وأربعين إلى نقطة الصفر، وأمُّك التي تريد أن ترفعك تعيش تحت الرقم صفر، لا أقول: بكثير، ولكن تحت الصفر بشكل واضح، لماذا يا ولدي لم تتّخذ قراركَ منذ زمنٍ بعيد؟ لماذا لَم تصدِّق أنك قد فشلتَ في بلاد الغُربة؛ حيث لا البلاد بلادك، ولا اللغة لغتك، ولا الناس ناسك؟ لماذا لَم تصدق فشلكَ إلاَّ في وقت متأخر جدًّا؟!
كنتُ كلما تأخرتْ رسائلكَ عني أشعر بأنَّ بعضي يموت، يموت ببطء؛ فأنتَ ولدي الوحيد، وأنا منقطعة عنك، ومات أبوك الذي كان يرعاني ويحاول أن يعوِّضَني عنكَ، يعزيني وصلْتَ، هل أقولُ: بعد فواتِ العمر، أم ما زال في العمر بقية تفرحُ بقدومك؟ المهمّ أنّكَ قد وصلْتَ، عُدْتَ إلى أمكَ بعد أكثر من عشرين عامًا، قضيتَها في الغربة، ماذا يا ولدي؟ ماذا أقولُ لكَ؟ هل كنتَ تشعر بما كانتْ تعاني منه أمُّك؟ على كل حال كانتْ تدعو لكَ بالتوفيق مع كلِّ صلاة، بل مع كلِّ رفة جفن.
أسوأ ما كنتُ أتوقعه أنكَ عُدْتَ وأنتَ ابن ثلاث وأربعين إلى نقطة الصفر، وأمُّك التي تريد أن ترفعك تعيش تحت الرقم صفر، لا أقول: بكثير، ولكن تحت الصفر بشكل واضح، لماذا يا ولدي لم تتّخذ قراركَ منذ زمنٍ بعيد؟ لماذا لَم تصدِّق أنك قد فشلتَ في بلاد الغُربة؛ حيث لا البلاد بلادك، ولا اللغة لغتك، ولا الناس ناسك؟ لماذا لَم تصدق فشلكَ إلاَّ في وقت متأخر جدًّا؟!
كنتُ كلما تأخرتْ رسائلكَ عني أشعر بأنَّ بعضي يموت، يموت ببطء؛ فأنتَ ولدي الوحيد، وأنا منقطعة عنك، ومات أبوك الذي كان يرعاني ويحاول أن يعوِّضَني عنكَ، يعزيني بغيابك، وبقيتُ وحيدة، صرتُ في غربة وأنا في بلادي، وكانت الرسالةُ التي تأتي منكَ بعد انقطاع تحييني، أو تحيي ما تبقّى مني مِن جديد، كنتُ أسارع إلى كتابةِ رسالة جديدة، رسالة واحدة، لا، رسائل، وكانتْ تصلك على أية حال.
أمَّا مكالماتُكَ الهاتفيَّة في السنوات الأخيرة، فقد كانتْ شيئًا آخر، إنَّها الروح التي تُرَدُّ إليَّ بعد أن تكون قد شارفتْ على الخروج: أمِّي، وما أحلاها من كلمة أسمعها ولو على بُعد آلاف الأميال! كنتُ أقبِّلُ سماعة الهاتف، أتحول إلى طفلةٍ صغيرة حالمة، يا ألله! ما أجمل ما كنتُ أحلم به! وتنقطع اتصالاتُكَ أشهر، ثم تُعاوِد الاتِّصال، كنتُ أتمنَّى أن يكونَ لكَ رقم ثابتٌ لهاتف، فأتَّصل بك أنا كل أسبوع، نعم مستعدة للاتِّصال كل أسبوع مهما كلَّفَني، أوفِّر مِن طعامي، من كل شيء، فأنتَ الزاد الذي أقتاتُه لأعيش على أمل، أمل جميل؛ ابني يكلِّمني، إنَّه الدواء الذي كان يشفيني من بعد علة، وما أكثر العلل والأمراض التي أصابتْني! ولكنْ قليلون جدًّا هم الذين كانوا يدرون بي، كنتُ أُخَبّئ عنكَ أي خبر يزعجك، ولَم تنقطع أحلامي بعودتكَ وأنتَ في أحسن الأحوال.
والآن يا ولدي، ماذا تريد؟ ما تريد منِّي أن أقدِّم لك؟ هل يروق لكَ أن أبيعَ البيت وأعطيك ثمنه من أجل أن تبدأ حياةً جديدة؟ لا بأس، صحيح أنه بيتٌ متواضع، ولكنني على استعدادٍ لأن أبيعه وأبيع كلّ شيء من أجلكَ، ولكن عندي شرطٌ وحيد: ألا تتركني بعد الآن، ألا تبتعدَ عني، تزوَّج؛ مُنيةُ حياتي أن تتزوَّج، ولكن احسبْ حسابًا كي أعيش معكما، خذْ ثمن البيت وافتح عملاً لعلَّ الله يبارك لكَ في رزقِكَ وأنتَ في بلدِكَ.
انكبَّ على يدي أمِّه يقبلهما، ثم على وجنتيها، ضمَّته إلى صدْرها، بكيا معًا، وصمتا ساعات.
في اليوم التالي تكلَّم، قال لأمِّه:
• أمَّاه، هذا بيتنا معًا، لن أبيعه، ولن أُدخِل امرأةً غريبة بيننا، لقد فاتني قطارُ الزواج بعد هذا العمر يا أمِّي، ولكن لَم تفتني حالة الرضا التي يجب أنْ أعيشها.
أمِّي، أنا عدتُ من الغربة لأرعاكِ وأبرَّكِ، صحيح أنَّني قد تأخَّرتُ في قراري، ولكنني أخذتُهُ، لقد عشتُ في بلادٍ كثيرة، وشاهدْتُ عن قرب كيف يعيشُ الناس هناك، وكيف يبنون، وكيف يزرعون، وكيف يكوِّنون علاقاتهم الاجتماعية، ولكنَّني لم أذقْ ودًّا حقيقيًّا مِنْ أحدٍ منذ أن غادرتُ بلدي، الود يا أمِّي شيءٌ عجيبٌ، وفقْدانه يعني فقدان ألذّ ما في الحياة.
أجابتْه أمُّه وهي تمدُّ يدها إلى خدِّه لتمسح دمعةً نفرتْ:
• الود وحده لا يكفي يا ولدي، أنتَ بحاجة إلى عمل، لقد كنتُ أعمل في غيابِكَ بالإبرة والخيط في نسج قطع فنية وأبيعها، وأصرف على نفسي من هذا العمل، صدقني لَم أقْبَلْ أن يعطيني أي خالٍ من أخوالِكَ الثلاثة قرشًا واحدًا، الله يكفيني مِن عملي ومن بركته، وأنت بحاجة الآن إلى عمل، ولكن ماذا ستعمل؟
ابتسم وقال:
• سأشتغل في نسج القطَع الفنية وأريحكِ من هذا العمل، فعيناكِ يجب أن ترتاحا، ألا تعلمينني هذا الفن الجميل؟
ضحكتْ وظهرتْ ضحكتُها كأنَّها ضحكة صبية في العشرين، ثم أمسكتْه مِن أذنه، وقالت: إن لَم تفتح ذهنكَ في تعلُّم هذه المهنة، فسأقسو عليكَ باللوم، ويمكن أن أضربَكَ إلى أن تتقنَ العمل.
خفض رأسه أمامها كأنه طفل صغير، ثم قال: حاضر يا معلمتي، ولكن إياكِ أن توخزيني بالإبرة، فأنا أخاف من هذا النوع من العقوبات.
صحت الأمُّ متأخِّرة قليلاً، بينما كان ابنُها يعبِّئ القطع التي اشتغلها في أكياس، ليخرج بها إلى السوق، تثاقلت الأمُّ في فراشِها، ولم تجد نفسها إلاَّ وابنها قرب السرير يقبّلها، ثم يجلس على طرف من سريرها ليفاتحها بأمر:
• ما رأيك يا أمي أن نسافر معًا ليوم أو يومين في نزهةٍ ربيعية؟
• اترك نزهاتك لغيري، لقد آن الأوان لكي أخطب لك ابنة الحلال، فهي أَوْلى مني بالنزهة.
وهمَّ بمقاطعة أمِّه، ولكنّها مدَّت يدها إلى فمِه لتغلقه، ثم تابعت:
• سنة ونصف من عملك هذا الذي يقول الناس عنه: إنه بسيط، حقق لك وفرًا لا بأسَ به، بالإضافة إلى أنّ طعامنا أفضل وعيشنا أرغد.
• هذا كله بعملكِ وفضلكِ يا أمِّي.
• هذا من فضل الله يا ولدي، ولتكتمل النعم عليك بالزواج، إن لَم تخترْ أنتَ ابنة الحلال، فإنّني سأختارها لك، أريد أن أرى أحفادي يمرحون في هذا البيت.
أطرق رأسه في الأرض خجلاً، وكأنَّه مراهق مؤدَّب، ثم قال:
• كما تشائين يا أمِّي، كما تشائين.
• هل تسمح لي بكشف سرٍّ من أسرارك التي تخبئها عني؟
• وما هو السر يا أمي؟!
• أعرف أنك قد ادَّخَرْتَ مبلغًا ما مِن عملكَ، ولكن لا أدري كم يبلغ، بارك الله لك في رزقك يا ولدي، ولكن لا أريدك أن تفكِّر في السفر من جديد.
• ألم تفهميني بَعْدُ يا أمي؟ لقد قطعْتُ كل أحلامي بالسفر، فأنا أعيش قرب أجمل قارة في العالم؛ إنها أمي، وما أحلاها من كلمة! وما أجمله من عالم! كل تعبي الذي أتعبه في العمل حلو وخفيف أمام عملي هناك في محطات الوقود، والمطاعم، والمنتجعات السياحية، جميلة كانت تلك البلاد يا أمِّي، ولكن بلا نكهة، بلا طعم، بلا رائحة، كل شيء عندهم مصنّع ومعلَّب، حتى الحديث عندهم مختلف، تحسِّين أنه أداء وظيفة لا غير، رغم المجاملات والعبارات اللطيفة.
هناك يا أمِّي كل إنسان معْنِي بإسعاد نفسه فقط، وعندما يُقدِّم سعادة لآخرين، فإنَّه يقدِّمها بأجر مادِّي، أو من أجل الحصول على ترقية أو شهادة، حتى الأمَّهات هناك هن كذلك، حتى الآباء!
سكتَ برهةً ثم عاد من جديد إلى حديثه:
• هل تدرين يا أمي كيف ادّخرتُ المال الزائد الذي لم أطلعكِ عليه؟ لقد أشار عليَّ رجلٌ طيب في السوق برأي، وكان رأيُه سديدًا، حاولتُ أن أكرمه ببعض الهدايا، رفض، وقال لي عبارة لن أنساها: إذا كنتَ أنتَ بخير فأنا بخير، هذه العبارة سمعتُها من بعض أصدقاء والدي - رحمه الله - منذ عشرات السنين، وعندما سمعتُها من جديد أدركْتُ أنَّ أمتنا بخير، وأن الأعداء برغم كل حقدهم وعتادهم الرهيب لن يتمكنوا من هذه الأمة؛ لأن فيها مَنْ يعتقد بهذا الاعتقاد وغيره.
ثم استدرك:
• الزواج يا أمي ليس كل شيء، بل أنت كل شيء في حياتي، أنتِ الآن في الثالثة والستين تبدين كصبية في الأربعين، بينما كنتِ قبل سنة ونصف السنة عجوزًا تزيد على السبعين، لا تحرميني من هذه النعمة يا أمي، نعمة أن نبقى معًا ولا يدخل ثالث بيننا، أنا لَم أصدِّق بعدُ أنّكِ قد سامحتِني على غيابي عنكِ سنينَ طوالاً!
ردَّت بنزق عفوي:
• أنا لم أسامحكَ؟ أنا؟! طوال عمري لم أحمل عليك، طوال عمري أدعو لكَ بالتوفيق، أدعو الله أن يأخذ من عمري ويمدّ في عمركَ، سامحك الله يا بني وهداك، أليس من علامات تسامُحي معك أن أطلب منكَ الزواج؟ انتبه لن تكون زوجتُكَ كائنًا ثالثًا غريبًا، بل ستكون منَّا نحن الاثنين معًا، أعدُكَ بذلك، لن أزعجها بحرف، بل سأسعدكما معًا.
• إذًا؛ اترُكي الأمر لصاحب الأمر، وكلُّ ما يأتي من عند الله فهو خير.
استغلَّت الأمُّ صمتَ ابنها وموافقته غير الصريحة بالزواج، ورأتْ أن تتحدَّث إليه بصراحةٍ أكبر:
• خالتُكَ يا بني لَم تقطعني طيلة مدّة غيابك، لا هي ولا أولادها، كانت تزورني باستمرار، وكنتُ أزورها، بعض بنات خالتِكَ كن يَبِتْن عندي في أيام الشتاء البارد يؤنسنني، ويلبّينَ حاجاتي، ولا سيما سلمى.
لفظت اسم "سلمى" وراحت تتفرَّس وجهَ ابنها مليًّا؛ لعلَّها تفهم منه شيئًا، فلم تفهم إلاَّ إطراقه رأسَه أرضًا وخجله وصمته العميق.
ثم تابعتْ: ما رأيكَ في سلمي؟
رفع رأسه قليلاً: سلمى؟! اتركيني يا أمي من هذا الموضوع.
• لماذا؟
• أشعر بخجل شديد من هذه البنت الطيبة، أشعر بندم حقيقي تجاهها، سلمى لا تستحقّني يا أمّي.
قال هذا الكلام وذكرياته تتداعى، كان في العشرين، وكانت سلمى في السادسة عشرة من عمرها، لَم يتبادلا كلمة واحدة تعبر عما في نفس كل منهما تجاه الآخر، كانت عندما تزور خالتها تهتم بكل أشيائه، تكوي له ألبسته، تعطرها، ترتب سريره، تقترح على خالتها الطبخ الذي يحبه.
لم تتزوّج سلمى، لم يكتَب لها نصيب.
تجنّب - بعد عودته - أي محاولة للقاء بها، ولم يحصلْ سوى أن جاء مرة إلى البيت فرأى أمه وخالته وإلى جوارهما سلمى، سلَّم على الجميع، ردَّتْ سلمى ردًّا فاترًا، راح يختلس النظرات إليها، رآها ما تزال تلك الصبية الطيبة الرقيقة التي ضيَّعها منذ عقود.
وها هي ذي أمه تذكره بها، يا ليت سلمى تسامحه وتقبل به زوجًا.
همَّ بالخروج، حمل حقيبته، وتوجَّه بها إلى السوق التي تعجُّ بالشباب أمثاله، الذين يفتحون بيوتًا ويعولون أسَرًا من عمل بسيط مثل عمله، من دون أن يكون لهم متجر أو محلٌّ